جسّد إعلان حكومة بغداد إجراء التعداد السكاني مصدرا لقلق العديد من الأطراف السياسية المحلية بسبب ارتباطه بالانتخابات والمذهبية التي قامت عليها العملية السياسية منذ ما يزيد على العقدين، ويعتمد العراق حاليا في الانتخابات على أن لكل 100 ألف مواطن نائبا برلمانياً، وفقاً لبيانات وزارة التجارة، ويُقدر العدد الإجمالي للسكان بـ43 مليون نسمة، في حين تبلغ أعداد المهجرين أكثر من 6 ملايين يتوزعون على نحو 40 دولة، وفقا لذات المصدر.
وتصر بعض الأطراف السياسية الفاعلة في العراق على ضرورة تضمين المذهب والقومية في التعداد السكاني الذي توقف منذ سنوات طويلة، خاصة بعد إعلان حكومة بغداد عن إجراء التعداد السكاني وتسريب الاستمارة التي لم تتضمن خانتي المذهب والقومية، وفي محاولة لتبرير حذف الخانتين أكدت وزارة التخطيط في بيان رسمي أن الإحصاء سيشمل الأمور الحياتية والاجتماعية والاقتصادية لمعرفة عدد السكان الدقيق، ووضع كل محافظة واحتياجاتها بحيث يكون تخطيط الدولة مستقبلا مبنيا على أسس علمية ودقيقة وليس تخمينية، كما أن الإحصاء لن يشمل المذهب أو الانتماء، لافتة إلى أن حذف الخانتين يأتي ضمن خطط تطبيق سياسة المواطنة.
أزمة المذهب والقومية
وكان آخر تعداد سكاني أجراه العراق، في عام 1997، وشهد استثناء محافظات إقليم كردستان العراق الثلاث، هولير والسليمانية ودهوك، لأنها كانت خارج سيطرة النظام العراقي في ذلك الوقت، وأظهر التعداد السكاني حينها أن عدد السكان يبلغ 22 مليون نسمة، دون أن يؤشر إلى المذهب الديني أو الانتماء القومي، وتأجل إجراء التعداد السكاني لمدة عشر سنوات بسبب المشاكل الأمنية ودخول تنظيم داعش، وفي 2019، تم تأجيله مرة أخرى بسبب خلافات سياسية تخص المناطق المتنازع عليها وأعقب ذلك ظهور جائحة كورونا التي حالت دون إجراء الإحصاء الرسمي.
محمد زنكنة المحلل السياسي قال في اتصال لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إن حكومة إقليم كردستان العراق لم ترفض إجراء التعداد السكاني بل أصرت على إجرائه في عامي 2007 و2017 وحينها رفضت وزارة التخطيط وتنصلت من مسؤوليتها بإجراء التعداد، لافتا إلى أن طرح فكرة إعادة إجرائه خلال الأيام الجارية يثير حالة من الريبة والشك بشأن التوقيت، خاصة بعد احتلال مناطق المادة 140 من قِبل المليشيات غير المنتظمة في المنظومة الدفاعية، وتهجير العديد من الأسر، مفسرا اختيار هذا التوقيت بأنه محاولة من قبل حكومة بغداد للاستقواء على المكونات المستهدفة وعلى رأسها الكرد والتركمان.
بوابة للالتفاف على الحقوق
وكشف أن حكومة بغداد وضعت في الاعتبار ملاحظات حكومة إقليم كردستان العراق باعتماد تعداد عام 1957 كعامل أساسي للإحصاء في المناطق الخاضعة لحكم المادة 140 من الدستور العراقي، إلى جانب الاتفاق على عدم الإعلان عن النتيجة إلا بعد أن تبت لجنة مختصة يتم تشكيلها بمعرفة الحكومتين في نتيجة التعداد قبل خروجها للعلن، مبديا تخوفه من الالتفاف على حقوق الكرد من خلال هذا التعداد السكاني، مدللا على ذلك بما شهده الإقليم من اعتداءات نفذتها الميليشيات الموالية لإيران بهدف إجراء عمليات تهجير، فضلا عن عدم وجود معايير علمية تحكم عملية الإحصاء، بدليل أن التعداد السكاني عام 1957 أكد أن عدد الكرد في كركوك شكل 48 % من النسبة السكانية، والعرب لم يكونوا أكثر من 20% والتركمان مثلهم متسائلا: (كيف وبقدرة قادر تحول العرب في التعداد السكاني عام 1997 إلى 60 %؟ وبالتالي لا توجد معايير علمية لإجراء التعداد السكاني، وسيفضي الأمر حال التلاعب به إلى تداعيات سلبية على العملية السياسية برمتها).
أزمة المادة 140 والعملية السياسية
تتضمن المادة 140 من الدستور العراقي، وفقا للباحث والمحلل السياسي خالد غازي، أطر محددة لتسوية أوضاع المناطق التي خضعت لتغييرات ديموغرافية بين عامي 1968 و2003، وذلك عبر إجراء تعداد سكاني تتبعه عملية استفتاء لتحديد مصير المناطق المشمولة بتلك المادة الواردة في الدستور وخاصة محافظة كركوك فضلا عن إعادة الأسر المهجرة من تلك المناطق وتعويضها.
ولفت غازي في اتصال لوكالة فرات للأنباء (ANF)، إلى إن الاحتلال الأمريكي كان بداية لانطلاق شرارة التغيير الديموغرافي، وكانت البصرة أولى المحافظات المستهدفة بعد دخول الميليشيات الإيرانية ليتراجع تعداد أهل السنة في المحافظة بعد أن كانوا يشكلون نسبة 40% من السكان، موضحا ان منهجية التغيير اعتمدت على المذهبية، حيث تعمدت تلك الميليشيات تهجير المسيحيين من بغداد والاستيلاء على المنازل والعقارات المملوكة للمواطنين وكان لمحافظة ديالى النصيب الأكبر، حيث شكلت نسبة السنة فيها أكثر من 80% ونظرا لموقعها الجغرافي المتميز بالقرب من العاصمة، تعمدت المليشيات المسلحة منهجية التهجير والتجنيس حيث كشفت جهات حكومية عن منح الجنسية العراقية لآلاف من غير العراقيين.
إن للمعطيات الراهنة وما شهده العراق على مدار العقدين الماضيين، تفسر بصورة جلية حالة القلق والارتياب بين المكونات المختلفة إثر الإعلان عن إجراء التعداد السكاني دون اعتماد المذهبية أو القومية، ونظرا لما شهده هذا البلد المنهك من خلافات وتدخلات خارجية فضلا عن الانقسامات بين مختلف طوائفه وقومياته، يدرك الكرد وغيرهم أن التدخلات الخارجية قد تعبث بأمن العراق من خلال استهداف المكونات والانتقاص من حقوقها السياسية، وبالتالي العودة إلى المربع صفر وفشل العملية السياسية بما يؤثر على الواقع الاقتصادي والسياسي، ما يتطلب خلق حالة من الشفافية الحكومية بشأن التعداد السكاني وإعلان عدم المساس بحقوق الأقليات والقوميات على اختلاف تنوعها.